تأملات مشروعة فى قصة قرآنية
بقلم الدكتور حسن أحمد عمر
هل كان العبد الصالح الذى قابله موسى مخلوقاً بشرياً أم ملاكاً مطيعاً من ملائكة الله تعالى تجسد لموسى على شكل بشر بحيث لا يراه بعد الله تعالى غير النبى موسى؟؟
أميل لكون هذا العبد كان ملاكاً وليس بشراً وسوف اسوق أدلتى لأثبت وأؤكد أنه لم يكن من البشر ولم يره غير موسى ولم يدرك أفعاله سوى موسى أثناء قيامه بها، لأنه لو أدرك الآخرون أفعاله ورأوها لكانت هناك ردود افعال شديدة لما قام به من خرق لسفينة مساكين وقتل لغلام برىء وإقامة لجدار على وشك السقوط فى قرية البخلاء، وتعالوا بنا نغوص فى أعماق هذه القصة القرآنية الحقة ونستخرج ما استطعنا منها من عبر.
بالتأمل فى قصة النبى موسى مع العبد الصالح الذى قابله فى إحدى رحلاته التأملية فى الكون، تحكى القصة:
أن الله تعالى قد شاء لعبده ونبيه موسى أن يلتقى بعبد لله يتمتع بصفات لا يتمتع بها موسى النبى نفسه وهى أن الله قد آتى هذا العبد رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً، وتحكى القصة القرآنية أن موسى هو الذى بادر بطلب التبعية لهذا العبد المعلم حيث دار هذا الحوار: - موسى: هل أتبعك على أن تعلمنى مما علمت رشداً؟ العبد المعلم: إنك لن تستطيع معى صبراً..
موسى: صامتاً العبد المعلم: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً؟
موسى: ستجدنى إنشاء الله صابراً ولا أعصى لك أمرا العبد المعلم: فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكراً..
وانتهى الحوار هنا وبدأت الرحلة. يجب أن نتذكر ان موسى كان بصحبة فتاه (اى الغلام الذى يخدمه) وحين قابل العبد المعلم كان هذا الفتى لا يزال بصحبة موسى لقوله تعالى (فوجدا عبداً من عبادنا) أى بصيغة المثنى، ولكن موسى عليه السلام لما طلب من العبد المعلم أن يتبعه قال له _ (هل أتبعك) ولم يقل (هل نتبعك) مما يدل على أن موسى سار وحده مع العبد المعلم، فلما مشيا معاً وصلا إلى شاطىء بحر بدليل انهما ركبا سفينة، قام العبد المعلم فور ركوب السفينة بخرقها (أى عمل بها ثقباً يسمح بدخول الماء) مما يهدد راكبيها بالغرق المؤكد والفناء المحقق، فلم يتمالك موسى نفسه وطفق يسأل الرجل: (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً)
فرد العبد عليه: (ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبراً)
فرد موسى: (لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسراً)…نلاحظ هنا تسرع موسى عليه السلام ونسيانه للوعد الذى قطعه على نفسه وهو أنه سيصبر على أعمال الرجل ولن يعصى له أمراً، ولكن العبد المعلم تجاوز هذه المرة وسار مع موسى، ويبدو أنهما من سياق القصة قد غادرا السفينة وسارا معاً على اليابسة، وصادف سيرهم غلام فقام العبد المعلم بقتله على الفور دون سابق إنذار مما اثار حفيظة النبى موسى وسارع سائلاً: (أقتلت نفساً ذكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً)
فرد عليه قائلاً: (ألم اقل لك إنك لن تستطيع معى صبراً) ؟
فقال له موسى (إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذراً)، وسامحه الرجل للمرة الثانية وانطلق معه حتى وصلا قرية يبدو أن أهلها جميعاً بخلاء ونفهم ذلك من سياق القصة (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) أى طلبا الطعام من أهل القرية لكونهما جائعين (فأبوا أن يضيفوهما) أى رفضوا جميعاً تقديم واجب الضيافة للرجلين.
وسار موسى مع العبد المعلم حتى وجدا جداراً قديماً يكاد يسقط على الأرض بفعل مرور الزمن وعوامل التعرية (فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه) فقال له موسى (لو شئت لاتخذت عليه أجراً) فرد العبد المعلم (هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).
وبدأ يشرح لموسى أسباب قيامه بهذه الأفعال وهى بالطبع أسباب غيبية لا يعلمها إلا الله ولكن الله تعالى كلف هذا العبد بذلك لتكون عظة وعبرة لموسى وللمعتبرين من بعده، فماذا قال:
1- عن السفينة قال (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً). وهنا يتبادر إلى الذهن عدة أسئلة… هل خرق السفينة سبب كاف لكى يتركها القرصان اللص الذى يأخذ كل سفينة غصباً ؟ ألا يمكن أن يأخذها ويقوم رجاله البارعون بإصلاحها… كيف تأكد العبد الصالح أن هذا الملك (القرصان) سيترك السفينة لمجرد أن بها عيباً بسيطاً كهذا الثقب قام به شخص واحد ولم ينتج عن حادث فظيع مثلاً ؟ وهناك سؤال آخر: كيف قام الرجل بخرق السفينة وهى ملك لبعض المساكين الفقراء وكيف تركوه يخرقها دون أن يوقفوه عن ذلك الفعل الذى سيتسبب فى غرقهم أو على أقل تقدير فقدانهم للسفينة التى يأكلون منها عيشهم ؟هل قام بإخبراهم أنه مرسل من عند الله وأنه سيخرق السفينة من أجل إنقاذها من القرصان ؟ وهل صدقوه وآمنوا بكلامه أم أن الله تعالى هداهم للصمت على ذلك والسكوت حتى يمر القرصان دون أن يأخذ السفينة ؟
والسؤال الأخير هل يمكن أن يكون العبد الصالح ملاكاً لا يراه سوى النبى موسى لذلك فقد خرق السفينة بطريقة لا يدركها أصحابها ثم قام بعلاج الثقب بعد مرور القرصان ؟
2- عن الغلام الذى قتل إن قتل إنسان هو بلاشك جريمة نكراء، فكيف قتل الرجل الصالح هذا الغلام فى بلده ؟ وهل تركه الناس يقتله ويمضى؟ اليس هناك شرطة أو بوليس يقبض عليه؟ وأكثر من ذلك ما هو موقف أبويه الصالحين من عملية قتل فلذة كبدهما؟ وخصوصاً أنهما لم يعلمهما الله تعالى من لدنه علماً كما فعل مع العبد الصالح أى أن الموضوع بالنسبة لهما هو جريمة قتل مكتملة الأركان؟ ولو كان العبد المعلم ومعه النبى موسى قد تركا البلدة التى قتل فيها الغلام ومشيا، فمن الطبيعى أن يعثر الناس على جثة الغلام القتيل ويذهبوا لأهله ويخبروهم بذلك فيسرع أهله باكين نحو الجثة، وخاصة أن هذا الغلام كان سيرهقهما طغياناً وكفراً فيما بعد أى أنهما لم يريا منه طغياناً وكفراً حتى تاريخ قتله فما هو موقفهم؟ وهل سيتهمون أحداً من اهل القرية بقتله؟ هل ستكون هناك إتهامات ومعارك وثأر؟ أم أن الله تعالى يمكن أن يكون قد أوحى إلى أبوى الغلام بما سيحدث لإبنهما فرضيا وسكتا لأنهما على علم بما سيكون من أمر قتل إبنهما على يد العبد المعلم ؟
والسؤال الأخير هل يمكن أن يكون العبد الصالح ملاكاً لا تراه العيون وقام بعملية القتل دون إراقة دماء وبدا للناس ولأبويه كأنه مات موتة طبيعية لا دماء فيها ولا عنف ؟ وخصوصاً أن القصة لا تذكر ابداً أن الرجل قد قتل الغلام بسكين ولا بعصا ولا بأى أداة مما يمكن أن تستخدم فى القتل، وهذا ما أميل إليه وهو أن العبد الصالح كان ملاكاً لا يراه غير موسى وكان يفعل هذه الأشياء دون أن يراه أحد غير الله وموسى وقد يسأل سائل وكيف طلبا طعاماً من أهل القرية ؟ هل تأكل الملائكة؟ والجواب هو أن الطعام كان لموسى وفتاه (أى الخادم الذى كان معه) وأن موسى سار مع غلامه بصحبة العبد الصاالح (الملاك المعلم من ربه)
3- الجدار أهل القرية التى بها الجدار بخلاء وطالما هم بخلاء فلا أخلاق لهم ولا إنسانية عندهم، وقد رفضوا تقديم واجب الضيافة لهما، فكيف بأهل هذه القرية وقد رأوا بأم رأسهم رجلين غريبين يدخلان القرية ثم يقيمان جداراً على وشك السقوط.. أليس من العقل أنهم سيسألون موسى والرجل عن سبب قيامه بترميم هذا الجدار؟
ألا يمكن أن يشك أحدهم فى أهمية هذا الجدار ثم يقوم بنقضه وسرقة الكنز بعد أن يقوم الرجلان بمغادرة المكان؟ وهذا تقريباً يؤكد ما أميل إليه وهو أن هذا العبد الصالح كان ملاكاً لا يراه غير موسى ويقوم بهذه الأفعال بسرعة البرق دون أن يدركه الآخرون، فقط موسى وبتقوية من الله ودعم له يرى ما يقوم به هذا الرجل الصالح ولا يراه سواه من البشر وإلا فإن كل التساؤلات التى طرحتها يجب أن توضع للتحليل الميكروسكوبى الدقيق، أما لو كان ملاكاً فتكتمل معجزة هذا العبد الصالح مع موسى ويصبح الموضوع قدراً إليهاً غيبياً لنبى ورسول من رسل الله تعالى ليزداد قلبه هدى ويتعلم الصبر ويعلم العبر التى رآها ومرت عليه فى قصته مع هذا العبد الصالح.
ومما لا شك فيه أن صفات العلم اللدنى (أى الإلهى) قد وضحت فى التصرفات الثلاثة التى قام بها العبد الصالح وكذلك الرحمة، فقد علم أن السفينة لمساكين (علم) وأن وراءها قرصان لص يسرق السفن إغتصاباً (علم) فقام بخرقها لإنقاذ أصحابها المساكين (رحمة) ومما لا شك فيه أنه اصلحها بعد مرور القرصان أو ارشدهم على طريقة سهلة وسريعة لإصلاحها، وكذلك عرف أن أبوى الغلام صالحان (علم) وأن الغلام عندما يكبر سيكفر ويطغى (علم) فقتله فأنقذ الغلام من عذاب جهنم (رحمة) وأنقذ أبويه من عذاب الغلام لهما طول عمرهما بسبب الكفر والطغيان اللذان كانا سيسيطران عليه (رحمة)، وبالنسبة للجدار فقد عرف أن تحته كنز لغلامين يتيمين (علم) وأن أباهما كان صالحاً (علم) فقام بترميم الجدار وإقامته مرة أخرى (رحمة) ومن المؤكد أن الله تعالى سيحفظ الجدار للغلامين حتى يكبرا ويستخرجا كنزهما.
انتهى مع تحياتي