نهاية الدولة الأموية
نصر بن يسا ر انتصر علي الترك فكانت مكافأته الضرب بالسياط
التاريخ كثير ما يعيد نفسه، فالنفس الانسانية هي النفس الإنسانية في كل العصور.. تؤثر فيها الأهواء والأطماع والرغبة في حياة أفضل في كل العصور علي مستوي واحد.. مهما تعددت الثقافات، فكل يحاول الجلوس علي القمة مهما لاقي من الأهوال وأشواك الطريق!
ونقف اليوم عند قصة حياة ثرية من قصص التاريخ.. وهي قصة نصر بن يسار.. وهو في أغلب الظن عراقي المنشأ، ولكنه عاش في خراسان، وحاول أن يزيد من عمر الدولة الأموية، التي رآها تتجه بسرعة مذهلة نحو مصيرها المجهول، خاصة أنه يري بوادر الثورة ضدها يدور رحاها علي أرض خراسان وخلفاء بني أمية في سبات عميق.
ونصر بن يسار هذا كان والده يعمل لحساب مصعب بن الزبير، ومصعب كان حاكما علي العراق من قبل أخيه عبدالله بن الزبير الذي نازع الدولة الأموية الخلافة، واستطاع بالفعل أن يستقل بالحجاز والعراق، وبعض الأقاليم الأخري.. وحدث أن يسار تورط في سرقة وأقيم عليه الحد، ولكي يعوض ابنه نصر ما حدث لوالده من تورط في هذه السرقة، وحتي لايكون هذا الحادث سببا في تعويق طريق مستقبله، اتخذ لنفسه طريق الجهاد في سبيل رفعة الامبراطورية الأموية، خاصة معارك هامة في جيش القائد العظيم قتيبة بن مسلم عندما كان حاكما لولاية خراساني، واستطاع أن يزحزف بجيشه فغزا بلاد ما وراء النهر، وحقق انتصارات مذهلة، وأوغل في بلاد الترك، حتي وصل إلي حدود الصين.
كما اشترك نصر مع مسلم ابن سعيد الكيلابي أمير خراسان في غزو فرغانة سنة 106 ه، وعندما استعمل خالد القسري حاكم العراق أخاه أسد بن عبدالله علي خراسان أبلي نصر معه بلاء حسنا في محاربة خاقان الترك، ولكن أسد بن عبدالله أساء معاملة نصر بن يسار بلا مبرر وأمر بضربه بالسياط وسيره مع بعض أصحابه إلي أخيه خالد، وكتب إليه.
أنهم أرادوا الوثوب به!
ولكن الخليفة هشام بن عبدالله أمر أخاه خالد بعزله، فرجع أسد إلي العراق سنة 109 ه، وعندما أصبح هشام أشرس بن عبدالله السلمي واليا علي خراسان، رد لنصر اعتباره وعينه واليا علي؟؟
* * *
وظل الرجل يجاهد في سبيل دينه، مخلصا لبني أمية لايبالي أكان في السلطة أو خارجها يعمل في خدمة الآخرين.
وحدث أن تولي ولاية خراسان الجنيد، وحارب الترك، وكان نصر بن يسار في جنده، واندلع القتال، وكاد ينتصر الترك لولا شجاعة نصر بن يسار، تلك الشجاعة التي جعلت النصر يلوح من جديد أمام المسلمين، بل ويحققوا النصر علي الترك.
وقد ذكر هذه الواقعة نصر في شعره حيث قال:
إني نشأت وسادي ذووا عدد
ياذا المعارج لاتنقص لهم عددا
ان تحسدوني علي مثل البلاء لكم
يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا
يأبي الإله الذي أعلي بقدرته
كعبن عليكم وأعطي فوقهم عددا
هل شهدتم دفاعي عن جنيدكم
وقع القنا وشهاب الحرب قد وتدا
* * *
ان الرجل كان يعرف قيمة نفسه
والرجل كان يعرف أن انتصاراته علي الأعداء قد سببت له حسد الغير عليه، وكان يعرف أن هناك كثيرا من المساءلة، رغم ما قدمه من خدمات جليلة للاسلام، ولكنه كما قال في شعره يدعو ربه أن يزيد هؤلاء الحساد، لأن الناس لايحسدون الا الناجح، ولايهتمون بالفاشل.. ومعني أنهم يحسدونه أنهم يقرون بفضله وقدرته علي مواجهة الأحداث، بقلب شجاع، وعقل شجاع أيضا.
* * *
وتمضي الأيام، ويوليه الخليفة الأموي هشام ولاية خراسان، فهو أدري بأحوالها وظروفها، وأدري الناس بما يجري فيها من أحداث، وما يحدث فيها من الأمور.
وبدأ الرجل يعمل باخلاص، ولايهمه مؤامرات يوسف حاكم العراق ضده، لأنه لم يكن يرجع إليه عندما يريد أن يقرر شيئا ما، وزادت مؤامرات حاكم العراق ضده عندما مات الخليفة هشام وخلفه الوليد بن يزيد، ولكن نصر بن يسار رغم كبر سنه كان حريصا أن يرتفع عن الصغائر، ويعمل في صمت لخدمة دينه، وخدمة الدولة الأموية.
* * *
وتمضي الأيام، ويتولي الخلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويشعر الرجل بالثورة تكاد تندلع في خراسان، وهي موجودة بالفعل، ولايبقي أمامها إلا الظهور علانية لاقتلاع الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية، كان يعرف ذلك كل المعرفة، بحكم خبرته بأمور خراسان، وبحكم معايشته لواقعها، حتي أنه أرسل برسالة بليغة إلي الخليفة مروان بن الحكم، ينبهه فيها إلي ما يجري من أحداث سوف تفوض الامبراطورية الأموية يقول فيها:
أري خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون له حزام
فإن النار بالعودين تذكي
وأن الحرب أولها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟
* * *
عندما تلقي الخليفة هذا الخطاب، وإن شئت فقل هذا الانذار عرف الحقيقة، ولكنه لم يولها الاهتمام الكافي، فأرسل إلي نصر يقول له:
'ان الشاهد يري ما لايراه الغائب فاحسم الأمر قبلك'.
وحاول نصر بن يسار أن يتصدي للثورة التي توشك أن تقوم وتقضي علي بني أمية، ولكن أحدا لم يساعده.. استعان بيزيد بن هبيرة والي العراق، ولكنه لم يسعفه برجال يقفون معه ضد الثورة التي علي الأبواب، ولم يكن لنصر من ثورة علي الوقوف وحده أمام هذه الثورة العاتية حين اندلعت بعنف بقيادة أبي مسلم الخراساني.
* * *
ويقول الأستاذ علي أدهم في دراسته عن نصر بن يسار:
.. .. وهكذا تخلي عنه الخليفة وأكبر ولاته وتركاه ومصيره.
وقد اضطر نصر إلي الفرار من خراسان، وكانت جيوش أبي مسلم تطارد هذا الشيخ الطاعن في السن من مدينة إلي مدينة من مدن خراسان، وهو مع ذلك يقاوم في تقهقره، ويعمل علي ايقاف تقدم رجال أبي مسلم حتي قدم مدينة الري، وأقام بها يومين، ثم اعتراه المرض فكان يحمل حملا.
فلما بلغ سادة أدركته الوفاة، وأراحته من هذه المطاردة القاسية المرة، والملاحقة التي لاتني ولاترحم، وكان قد شارف الخامسة بعد الثمانين!
وقد هز مصرع نصر الشاعر المطبوع أبا العطاء السندري، فرثاه بهذه الأبيات المؤثرة التي يقول فيها:
فاضت دموعي علي نصر وما ظلمت
عين تفيض علي نصر بن يسار
يانصر! من للقاء الخيل ان لقحت
يانصر من للضيف والجار
الخندقي الذي يحمي حقيقته
في كل يوم مخوف الشر والعار
إلي أن يقول:
ماض علي الهول مقدام اذا اعترضت
سمر الرماح وولي كل فرار
ان قال قولا وفي بالقول موعده
ان الكناني واف غير غدار
وكأنما كانت حياة نصر موصولة
بحياة الدولة الأموية، والتي وفي لها، وأبلي في الدفاع عنها.
فقد ولد بعد ميلادها بأعوام قلائل.
ومات قبل أن يتقلص ظلها بأشهر معدودات، وقد كان هذا الرجل الذي أفني زهرة عمره في الجهاد جديرا بميتة أكرم من هذه الميتة، ومصير، أكثر سماحا من هذا المصير.
ولكنها مشيئة الأقدار، ولامرد لمشئتها دافع لقضائها.
نصر بن يسا ر انتصر علي الترك فكانت مكافأته الضرب بالسياط
التاريخ كثير ما يعيد نفسه، فالنفس الانسانية هي النفس الإنسانية في كل العصور.. تؤثر فيها الأهواء والأطماع والرغبة في حياة أفضل في كل العصور علي مستوي واحد.. مهما تعددت الثقافات، فكل يحاول الجلوس علي القمة مهما لاقي من الأهوال وأشواك الطريق!
ونقف اليوم عند قصة حياة ثرية من قصص التاريخ.. وهي قصة نصر بن يسار.. وهو في أغلب الظن عراقي المنشأ، ولكنه عاش في خراسان، وحاول أن يزيد من عمر الدولة الأموية، التي رآها تتجه بسرعة مذهلة نحو مصيرها المجهول، خاصة أنه يري بوادر الثورة ضدها يدور رحاها علي أرض خراسان وخلفاء بني أمية في سبات عميق.
ونصر بن يسار هذا كان والده يعمل لحساب مصعب بن الزبير، ومصعب كان حاكما علي العراق من قبل أخيه عبدالله بن الزبير الذي نازع الدولة الأموية الخلافة، واستطاع بالفعل أن يستقل بالحجاز والعراق، وبعض الأقاليم الأخري.. وحدث أن يسار تورط في سرقة وأقيم عليه الحد، ولكي يعوض ابنه نصر ما حدث لوالده من تورط في هذه السرقة، وحتي لايكون هذا الحادث سببا في تعويق طريق مستقبله، اتخذ لنفسه طريق الجهاد في سبيل رفعة الامبراطورية الأموية، خاصة معارك هامة في جيش القائد العظيم قتيبة بن مسلم عندما كان حاكما لولاية خراساني، واستطاع أن يزحزف بجيشه فغزا بلاد ما وراء النهر، وحقق انتصارات مذهلة، وأوغل في بلاد الترك، حتي وصل إلي حدود الصين.
كما اشترك نصر مع مسلم ابن سعيد الكيلابي أمير خراسان في غزو فرغانة سنة 106 ه، وعندما استعمل خالد القسري حاكم العراق أخاه أسد بن عبدالله علي خراسان أبلي نصر معه بلاء حسنا في محاربة خاقان الترك، ولكن أسد بن عبدالله أساء معاملة نصر بن يسار بلا مبرر وأمر بضربه بالسياط وسيره مع بعض أصحابه إلي أخيه خالد، وكتب إليه.
أنهم أرادوا الوثوب به!
ولكن الخليفة هشام بن عبدالله أمر أخاه خالد بعزله، فرجع أسد إلي العراق سنة 109 ه، وعندما أصبح هشام أشرس بن عبدالله السلمي واليا علي خراسان، رد لنصر اعتباره وعينه واليا علي؟؟
* * *
وظل الرجل يجاهد في سبيل دينه، مخلصا لبني أمية لايبالي أكان في السلطة أو خارجها يعمل في خدمة الآخرين.
وحدث أن تولي ولاية خراسان الجنيد، وحارب الترك، وكان نصر بن يسار في جنده، واندلع القتال، وكاد ينتصر الترك لولا شجاعة نصر بن يسار، تلك الشجاعة التي جعلت النصر يلوح من جديد أمام المسلمين، بل ويحققوا النصر علي الترك.
وقد ذكر هذه الواقعة نصر في شعره حيث قال:
إني نشأت وسادي ذووا عدد
ياذا المعارج لاتنقص لهم عددا
ان تحسدوني علي مثل البلاء لكم
يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا
يأبي الإله الذي أعلي بقدرته
كعبن عليكم وأعطي فوقهم عددا
هل شهدتم دفاعي عن جنيدكم
وقع القنا وشهاب الحرب قد وتدا
* * *
ان الرجل كان يعرف قيمة نفسه
والرجل كان يعرف أن انتصاراته علي الأعداء قد سببت له حسد الغير عليه، وكان يعرف أن هناك كثيرا من المساءلة، رغم ما قدمه من خدمات جليلة للاسلام، ولكنه كما قال في شعره يدعو ربه أن يزيد هؤلاء الحساد، لأن الناس لايحسدون الا الناجح، ولايهتمون بالفاشل.. ومعني أنهم يحسدونه أنهم يقرون بفضله وقدرته علي مواجهة الأحداث، بقلب شجاع، وعقل شجاع أيضا.
* * *
وتمضي الأيام، ويوليه الخليفة الأموي هشام ولاية خراسان، فهو أدري بأحوالها وظروفها، وأدري الناس بما يجري فيها من أحداث، وما يحدث فيها من الأمور.
وبدأ الرجل يعمل باخلاص، ولايهمه مؤامرات يوسف حاكم العراق ضده، لأنه لم يكن يرجع إليه عندما يريد أن يقرر شيئا ما، وزادت مؤامرات حاكم العراق ضده عندما مات الخليفة هشام وخلفه الوليد بن يزيد، ولكن نصر بن يسار رغم كبر سنه كان حريصا أن يرتفع عن الصغائر، ويعمل في صمت لخدمة دينه، وخدمة الدولة الأموية.
* * *
وتمضي الأيام، ويتولي الخلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويشعر الرجل بالثورة تكاد تندلع في خراسان، وهي موجودة بالفعل، ولايبقي أمامها إلا الظهور علانية لاقتلاع الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية، كان يعرف ذلك كل المعرفة، بحكم خبرته بأمور خراسان، وبحكم معايشته لواقعها، حتي أنه أرسل برسالة بليغة إلي الخليفة مروان بن الحكم، ينبهه فيها إلي ما يجري من أحداث سوف تفوض الامبراطورية الأموية يقول فيها:
أري خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون له حزام
فإن النار بالعودين تذكي
وأن الحرب أولها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟
* * *
عندما تلقي الخليفة هذا الخطاب، وإن شئت فقل هذا الانذار عرف الحقيقة، ولكنه لم يولها الاهتمام الكافي، فأرسل إلي نصر يقول له:
'ان الشاهد يري ما لايراه الغائب فاحسم الأمر قبلك'.
وحاول نصر بن يسار أن يتصدي للثورة التي توشك أن تقوم وتقضي علي بني أمية، ولكن أحدا لم يساعده.. استعان بيزيد بن هبيرة والي العراق، ولكنه لم يسعفه برجال يقفون معه ضد الثورة التي علي الأبواب، ولم يكن لنصر من ثورة علي الوقوف وحده أمام هذه الثورة العاتية حين اندلعت بعنف بقيادة أبي مسلم الخراساني.
* * *
ويقول الأستاذ علي أدهم في دراسته عن نصر بن يسار:
.. .. وهكذا تخلي عنه الخليفة وأكبر ولاته وتركاه ومصيره.
وقد اضطر نصر إلي الفرار من خراسان، وكانت جيوش أبي مسلم تطارد هذا الشيخ الطاعن في السن من مدينة إلي مدينة من مدن خراسان، وهو مع ذلك يقاوم في تقهقره، ويعمل علي ايقاف تقدم رجال أبي مسلم حتي قدم مدينة الري، وأقام بها يومين، ثم اعتراه المرض فكان يحمل حملا.
فلما بلغ سادة أدركته الوفاة، وأراحته من هذه المطاردة القاسية المرة، والملاحقة التي لاتني ولاترحم، وكان قد شارف الخامسة بعد الثمانين!
وقد هز مصرع نصر الشاعر المطبوع أبا العطاء السندري، فرثاه بهذه الأبيات المؤثرة التي يقول فيها:
فاضت دموعي علي نصر وما ظلمت
عين تفيض علي نصر بن يسار
يانصر! من للقاء الخيل ان لقحت
يانصر من للضيف والجار
الخندقي الذي يحمي حقيقته
في كل يوم مخوف الشر والعار
إلي أن يقول:
ماض علي الهول مقدام اذا اعترضت
سمر الرماح وولي كل فرار
ان قال قولا وفي بالقول موعده
ان الكناني واف غير غدار
وكأنما كانت حياة نصر موصولة
بحياة الدولة الأموية، والتي وفي لها، وأبلي في الدفاع عنها.
فقد ولد بعد ميلادها بأعوام قلائل.
ومات قبل أن يتقلص ظلها بأشهر معدودات، وقد كان هذا الرجل الذي أفني زهرة عمره في الجهاد جديرا بميتة أكرم من هذه الميتة، ومصير، أكثر سماحا من هذا المصير.
ولكنها مشيئة الأقدار، ولامرد لمشئتها دافع لقضائها.
منقول