النحو العربي قضية شهادة
يعد النحو العربي أو التراكيب من مستويات اللغة المهمة، كونه حصيلة انتظام الأصوات اللغوية في كلمات مفردة، تشكل في مجموعها جمل الكلام وتراكيبه، للوصول إلى الدلالة أو المعنى قمة الدراسات اللغوية.
ولما كان النحو هو"العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها"([1])، برزت أهميته في إحكام جانب النظم، الذي تتألف الكلمات فيه على سمت محكم بديع، يدعو الدارس المتتبع إلى إيجاد ذلك الترابط بين أجزاء الكلام، من غير إغفال ما فيه من تقديم أو تأخير، ومن حذف أو زيادة، تلك العناصر التي تجعل من علم النحو أو النظم، ذا خصوصية لغوية اجتماعية تعين على إبراز الذات، وبيان جوانب في الشخصية، لا تتحقق إلا من خلال ما تقدمه من إعراب وبناء.
والنحو العربي له أسس وقواعد ذات بناء محكم متين، قام به كوكبة من العلماء في بدايات النحو العربي في القرن الثاني الهجري، إذ فلسفوا بناء القاعدة النحوية وأقاموا عودها، وأغلقوا الأبواب على المتنطعين أمثال المغتربين في عصرنا الحاضر، أن يبثوا سمومهم المشبعة بالأفكار الغربية الواردة المعادية للفكرة العربية المتأصلة، وأن يعبثوا بهذا البناء الرصين، الذي ساير تطور اللغة على مر العصور.
غير أن هذا لا يعني أن النحو ليس بحاجة إلى صياغة جديدة ومحاولة تشذيب، أو ما أشار إليه الباحثون بمحاولات التيسير، التي قامت مع بدايات هذا القرن، وإن كنت معتقدًا أن صعوبة النحو لا تكمن في قواعده وبنائه بشل عام، بل ثمة أمور أخرى لها أثر في ذلك، منها انشغال الشداة الناشدين بوسائل المعرفة المتعددة، وابتعادهم عن كل شيء يقربهم من الفصاحة والسليقة والبيان، ثم الواقع الذي يحياه المثقفون، مع انبهارهم بما قدمته الحضارة الحديثة من تقدم في مجالات العلوم المختلفة...
ولعل غربة النحو العربي ليست وليدة الحاضر، بل هي قديمة انبرى لها العلماء الدارسون والباحثون، كل يحمل معوله يهدم به أركان النحو وأعمدته. فمن ابن مضاء القرطبي المتوفى سنة(592هـ)، حين دعا إلى رفض نظرية العامل وما يتعلق بها في كتابه(الرد على النحاة)، وهي النظرية التي تشكل الأساس في تراكيب الكلام عند النحاة القدماء، فكانت المحاولة الأولى للتصدي للنحو، إذ أقبل عليها الدارسون المحدثون وتأثروا بها، وراحوا يشمرون عن سواعدهم في تيسير المادة النحوية، لتكون قريبة إلى أفهام الدارسين.
وثمة فريق آخر، حاول الغض من قيمة النحو وعدم مسايرته ركب الحضارة، فشرعوا بتيسير القواعد وتبسيطها على غرار ما جاء به الفريق الأول، وإن كان عملهم في الحقيقة هو نتيجة لما قام به من قبلهم، ونذكر من هؤلاء الدكتور محمد كامل حسين في كتابه "اللغة العربية المعاصرة"، الذي دعا إلى استعمال لغة عربية ميسرة أسماها "المخففة"، يستعملها القوم لغة حديث وتخاطب، تاركًا الفصحى العالية للأدباء والكتاب، فيما جعل للأطفال حتى السادسة عشرة اللغة العامية المنقحة ـ وغيره كثيرون.
أما الفريق الثالث - وهو أخطرها -، فقد انبرى للنحو يكيل له الاتهام، وأخذ يضرب بحديد ونار ضربات موجعة. وهذا الفريق يمثل دعاة العامية الذين قادوا حملة شرسة ضد العربية. ولا أظن هؤلاء إلا ذيولاً وخواجات لأقزام المستشرقين، الذين ما فتئوا يهاجمون الثقافة العربية إطار الحضارة، ممثلة بأبعادها الدينية واللغوية والتاريخية، أمثال سلامة موسى، وسعيد عقل، وأنيس فريحة وغيرهم.
ومحاولات هذا الفريق جاءت نتيجة حتمية بدوافع متشعبة، امحاولات سابقة قام بها جهابذة الاستعمار، ورأوا أن يكون ضَرْب اللغة العربية في مواطنها، وضربها في معاقلها، فَفُرضت لغة المحتل وصارت اللغةَ الأولى في المدارس والمعاهد، وأزيحت اللغة العربية أساسًا، وجاءت بعدها الخطوة الثانية وهي الدعوة إلى العامية وتشجيعها والاهتمام بها، من حديث وكتابة وإذاعة، ومسرحيات، وقصص([2])...
ولم يكتفِ القوم بهذا، بل قاموا على قدم وساق يؤلفون بالعامية، وجمع الأزجال والفكاهات والكلمات الدائرة على الألسنة. وقام جماعة من المستشرقين منهم المهندس ويلكوكس، وسبيتا مدير دار الكتب المصرية، والقاضي ولمور بتأليف دراسات وكتب عما أُطلق عليه اللغة المحكية، أو العامية المصرية([3]).
والنحو العربي قام، أول ما قام، خدمة للنص القرآني الخالد، خشية أن يشوبه اللحن والعجمة نتيجة دخول غير العرب في الإسلام. لذلك، فإن الهجوم على هذا النحو والنيل منه، يعني الهجوم السافر على الدين الحنيف ممثلا بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، خاصة وأننا نعلم أن القرآن هو الذي حفظ لغتنا من كل نابتة وشائبة، فاتخذت بذلك ديمومتها وقدسيتها من قدسية هذا الكتاب المعجز.
وليس القصد من قدسية اللغة أنها فوق الاجتهادات ومحاولات التجديد، بل ما حفظت به نفسها على مرّ الأزمان والعصور، واحتفاظها بخصائص جعلتها مميّزة من دون اللغات على مستوى الخطاب والدلالة والأسلوب. وأنقل هنا للفائدة والتدليل على ما أشرت، بعض كلمات لكبار المستشرقين([4])ممّن كان لهم أثر واضح في الهجمة الشرسة على اللغة العربية بتراكيبها ودلالاتها. يقول بروكلمان: "بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة من لغات الدنيا"، ويقول لويس ماسينيون: "واللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي.. "، ويقول بلاشير: "لغة القرآن هي لغة اليوم، وهذا ما تتميز به العربية على اللغات الأخرى"، ويقول فتيجو: " على العرب أن يتمسكوا بلغتهم، تلك الأداة الخالصة من كل شائبة، والتي نقلت الإنتاج الفكري العالمي من غير نقصه أو خفضه".
وإن كان دعاة الهدم وجدوا لهم ميدانا متراحبا في النيل من اللغة العربية، فقد يسر الله وقيض لدعواتهم تلك الهدامة، رجالا تسلحوا بالعلم والإيمان يردون على أكاذيبهم وترهاتهم، ويبطلون دعواتهم بالحجة والبرهان. ولعل من الفائدة أن نشير إلى تلك الأقلام المتوضئة، لمن أحب أن يراجع المعلومات وشموليتها من كثب. فمنهم قلم حجة العصر الموهوب "مصطفى صادق الرافعي" في سفره النفيس "تحت راية القرآن"، والعلامة الحبر الفهامة التلميذ البار"محمود محمد شاكر" في نفيسه الآخر "أباطيل وأسمار"، والدكتور "محمد محمد حسين" في كتابه "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، والدكتورة "نفوسة زكريا" في رسالتها "تاريخ الدعوة العامية في مصر" وغيرهم.
أما التعامل مع النحو العربي، فيكون على محورين اثنين: المحور النظري والآخر العملي. فهو نظريا يدرس المتعلم ونحن في غياب السليقة تلك القواعد من الأمات والمصادر، مع الاستئناس ببعض كتب التيسير الحديثة، لتقرب له القاعدة فهما ثم أداء.
وما إن تستقر المعلومات في الذاكرة، ينتقل ليعزز بيانها ورسوخها بمباشرة ما اختزن قراءة ومحادثة. ولا تتجسد هذه المهارات إلا بمتابعة ما احتوته الذاكرة عن طريق المطالعة الحثيثة في النصوص الفصيحة العالية، بأن يديم نظره في القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي اتخذه العقاد أصلا من الأصول الذي تحسن به الكاتبة "مي زيادة" أسلوبها في الكتابة والتعبير والحديث النبوي الشريف، وفي الأدب العربي قديمه وحديثه، شعره ونثره على السواء. ولا ضير أن يحفظ ما يعجبه من تلك قراءاته تلك؛ إذ إن الحفظ يساعد اللسان في القدرة على البيان والإعراب، فقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان ينصح النساء أن يروين أبناءهن ما حسن من القول والشعر.
وقد أشار ابن خلدون في معلمته الشهيرة " المقدمة " إلى ذلك إذ يقول: " ووجه التعليم لمن يبغي هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم، الجاري على أساليبهم من القرآن والسنة وكلام السلف، ومخاطبة فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم، حتى يتنزل بكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور، منزلة من عاش بينهم ولقِن العبارة منهم".
نعم، إن القراءة المتأنية الواعية في الموروث العربي المتجدد، تضمن سلامة في النطق عند أبناء العربية، وتبعدهم عن الوقوع في اللحن والخطأ، وتطلق ألسنتهم وتفتق لهاتهم، فيشعر المرء عندها أنه يتكلم العربية كما تكلمها الأوائل سليقة وروية دون أدنى عناء. ويكون بذلك وهو كذلك - قد رد على المغرضين الحاقدين الألداء، الذين اتخذوا من صعوبة تعلم قواعد اللغة كما يزعمون، سلاحا يهجمون به على أصالة هذا العلم العريق، مدفوعين بدوافع مبيتة تتصل بأركان حضارة القوم، فوصموه بالجمود والتحجر، وأخذوا يدعون إلى دراسة النظريات اللغوية الحديثة المعاصرة وتطبيقها على هذا النحو العربي.
ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم كتبوا بدايات إنتاجهم الفني باللهجة العامية، حتى إذا ما كسدت بضاعتهم في أسواق نخاستهم، شمروا ساعد جدهم ليكتبوها بالفصيحة تارة أخرى، لتنتشر في القوم انتشار النار في الهشيم.
وبعد، فاللغة لا يضيرها أن تفيد من علوم الغرب وخبرات الأوائل والأواخر، وإن الخطأ كل الخطأ أن نتقوقع على أنفسنا نندب حظنا، متجاهلين ما أتى به القوم من معارف نافعة مفيدة. لكن من أراد أن ينهل من معين تلك العلوم ويطلع على أسرارها، فلا ندحة له أن يكون قد تشرّب القديم عن إدراك وبصيرة، ليتعامل مع الحديث بكلّ تأنٍّ ورويّة.